تقارير

كفرشوبا وأخواتها في «فم التنين»… من «الفدائي» الأول إلى المنازلة الأخيرة

كامل جابر – الرأي
– كفرشوبا… حاضرُها «الحربيّ» يشبه ماضيها الدائم الحروب
– النزاعُ على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا جَعَلَها أشبه بـ… مسمار جحا
– كفرشوبا أو «رأس الحربة» دُمّرت خمس مرات و… استمرّت
– الناس متروكون لأمرهم وكلما احتاجوا الدولة لا يجدونها
– 90 في المئة من سكان كفرشوبا وشبعا وكفرحمام وراشيا الفخار… نزحوا
– من شبعا إلى كفرشوبا أكثر من 20 الف رأس ماعز و3000 قفير نحل «مصيرهم مجهول»

رغم تَعاظُم خَطَر انزلاق المنطقة برمّتها إلى حرب شاملة، فإن ثمة حروباً دائمة استوطنتْ مناطق في جنوب لبنان، كانت تندلع حيناً وتخفت أحياناً بحُكْم الجغرافيا التي جعلتْ منها أشبه بـ«شرفات» تطل على جاراتها المحتلة من فلسطين.

قرى وبلدات حاضِرُها يشهد على ماضيها حين احتضنتْ الرصاصات الأولى أيام العمل الفدائي الوافد إلى لبنان أواخر ستينيات القرن الماضي.

… كفرشوبا وأخواتها، من شبعا إلى الفرديس، مروراً بحلتا والهبارية وكفرحمام وراشيا الفخار والماري وسواها.

لم تغادر هذه البلداتُ الجميلةُ المترامية بين تلال جبل الشيخ وسفوحه الذاكرةَ اللبنانيةَ المفتوحة على تاريخ طويل من الكرّ والفرّ مع إسرائيل، وها هي حاضرة الآن في يوميات الحرب المتوالية منذ نحو عشرة أشهر… قصف ودمار وضحايا وحرائق وفوسفور وكأنه يراد كسر هذا المخرز.

إنها منطقة العرقوب الأكثر شهرة وديمومة في تاريخ الصراع اللبناني – الإسرائيلي، إذ بعد تحرير العام 2000 للجنوب والبقاع الغربي استمرّ الاحتلال قابضاً على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لزعمه أنها مناطق سورية تخضع لمفاعيل القرار 242 ومندرجاته.

ومنطقة العرقوب مازالت تتعرض للقصف المدفعي اليومي من المواقع الإسرائيلية في الجولان المحتلّ والمشرفة على المنطقة، ولعشراتِ الغارات من الطيران الحربي والمسيّرات. وقد أدى العدوان المتمادي عليها إلى سقوط عديد من الضحايا المدنيين ونزوح الآلاف وتدمير عشرات البيوت والمزارع واشتعال الحرائق في مئات الدونمات من الأراضي الزراعية والحرجية.

لم يكن ما يتعرّض له العرقوب اليوم جديداً على المنطقة وأهلها، بل يعود إلى تاريخ بعيد، إلى أيام احتلال فلسطين العام 1948 إذ لاحقت عصابات «الهاغانا» الإسرائيلية الفلسطينيين المهجَّرين قسراً عن أراضيهم وأملاكهم إلى هذه المنطقة التي شكّلت لهم منفذَ عبورٍ، مروراً باعتداءات العام 1967 تاريخ بدء احتلال مزارع شبعا، و1969 في ظل تنامي حركة الفدائيين الفلسطينيين بعد السماح لفصائل المنظمات الفلسطينية وقواها المتعددة بالانتشار في المنطقة والانطلاق في الكفاح المسلح والعمل الفدائي بموجب اتفاق القاهرة (1969).

وبقي أبناء هذه المنطقة يدفعون الغالي والنفيس في مواجهة الاجتياحات الإسرائيلية المتكرّرة، منذ 1978 و1982 و2006 وما بينها، وثمن الغطرسة الإسرائيلية التي ما فتئت تتقصّدهم مع كل عدوان لها على جنوب لبنان، ما أدى إلى نزوحهم أكثر من مرة، وهدْم بيوتهم وإعادة بنائها مجدداً مرات ومرات، خصوصاً أن أبناء هذه المنطقة يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بأراضيهم ومنازل الأهل والأجداد، وهم من مجتمع زراعي بامتياز يَختبرون التربة في معايشيهم، فإن عطشت رووها بدمائهم، وهذا ما أدى إلى سقوط المئات منهم على مذبح الدفاع عنها وعن فلسطين طوال 57 عاماً وأكثر.

العرقوب التاريخية المقاومة

تتألف منطقة العرقوب من مجموعة قرى وبلدات تقع كلّها في قضاء حاصبيا، وتضم: شبعا، كفرشوبا، حلتا، الهبارية، كفرحمام، راشيا الفخار، المَاري والفرديس.

وسبّبَ الموقعُ الإستراتيجي للمنطقة عند مثلث لبنان وفلسطين المحتلة وسورية، وتَداخُل الأراضي اللبنانية مع أراضي البلدين، معاناةً دائمة لأبنائها، تتكرّر مع كل عدوان على لبنان، وهو ما جعل يد الإسرائيليين تمتدّ احتلالاً إلى مئات الدونمات من الأراضي الزراعية والجبلية الغنية بمنابع المياه، مرةً تحت حجة أنها أراض فلسطينية، ومرات لاعتبارها أراضي سورية (محتلة).

وبات العالم بأسره يدرك قضية الصراع العالق حول مزارع شبعا التي يطالب لبنان باستردادها من الاحتلال الإسرائيلي كونها أراض لبنانية مملوكة من أصحاب لبنانيين، وقد طُرحت على جدول المفاوضات بعد رسْم «الخط الأزرق» في أعقاب التحرير العام 2000، ثم عادت من جديد على طاولة البحث من قبل المبعوثين الدوليين والأمميين المفاوضين حول وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، بمعزل عن حرب غزة.

المقاومة بمواجهة الظلم التاريخي

لم تدخل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ضمن «الخط الأزرق»، الممتدّ من الناقورة حتى قرية الغجر ضمن الشطر الشمالي اللبناني، وبقيت كأرض متنازَع عليها وسمّي حينها هذا الخط بخطّ الانسحاب.

هذا الأمر أعطى القوى اللبنانية المتصدّية للاحتلال، و لـ«حزب الله» تحديداً، شرعيةَ الدفاع عنها لاسترجاعها، مثلها مثل مزراع شبعا، وهذا ما فَتَحَ الصراع مجدداً على دفتيه في مطلع يونيو 2023، بعدما تقدمت جرافة إسرائيلية إلى حقل زراعي في خراج كفرشوبا (جنوب شرقي البلدة) وقامت بتجريفه، فتصدّى لها المزارع إسماعيل ناصر بجسده، وبعدها تحولت إلى ساحة مناوشات أمنية وعسكرية وقضية سياسية، ولم يطل الأمر حتّى اندلعت حرب أكتوبر 2023 فاختلطت الأوراق من جديد.

بين المفاوضات والتهديد العسكري والأمني، استعاد أهالي كفرشوبا نحو 250 إلى 300 دونم «من الأراضي المحتلّة منذ الترسيم المشؤوم، بل انتزعنا قسماً من الأرض المضمومة، من براثن الاحتلال.

لكن المؤسف في الأمر أنّ دولتنا اللبنانية لا تعرف حدودها الجغرافيّة وما لها وما عليها، وقد تخلّت عن مساحات واسعة من أرض كفرشوبا لهذا الاحتلال ولم تشملها بترسيم الخط الأزرق».

والكلام لرئيس بلدية كفرشوبا قاسم القادري، الذي أبدى أسفه «لعدم اهتمام الدولة اللبنانية بشكل جدي في استرجاع ما لنا من أراضٍ تحت سيطرة الاحتلال بعمق ثلاثة كيلومترات باتّجاه مزارع شبعا، وفرْض الانسحاب من أملاكنا، بل تركتْها عالقة مثل مسمار جحا».

… دُمّرت خمس مرات

ويضيف القادري «ما نشهده اليوم من اعتداءات على كفرشوبا أدت إلى نزوح مئات العائلات، لم يكن جديداً على أبناء كفرشوبا، فهو بدأ منذ 1948، وتصاعد منذ العام 1968. منذ ذلك الحين دمّرت الاعتداءات الإسرائيلية كفرشوبا خمس مرات، في الأعوام: 1970 و1975 و1976 و1982 وكذلك في 2006، كل ذلك والناس هنا متروكون لأمرهم، وهم في كل مرة يعيدون من اللحم الحي بناء ما يدمره العدو، حتى أنهك هذا الأمر قدراتهم الإنتاجية والمالية، إذ يضطرون بعد كل عدوان إلى إعادة بناء حياتهم من جديد».

ويتابع «تعاني كفرشوبا عدوانية إسرائيل منذ نحو 60 عاماً، وكنا كلما احتجْنا الدولة لأن تكون إلى جانبنا لا نجدها، كأنّها قررت أن تتخلى عنا، فهي لم تبنِ لنا يوماً ملجأً واحداً ليس في كفرشوبا فحسب، بل في قرى وبلدات العرقوب برمّتها، أو حتى مستوصفاً أو مستشفى، أو مركزاً للدفاع المدني. وهي تغيب تماماً عن مجمل الأمور الحياتية الضرورية للناس في مجتمع ريفي وزراعي بامتياز».

ويشير إلى أنه «منذ 10 أشهر ونيف، والناس هنا محرومون من الوصول إلى أراضيهم الزراعية وحاراتهم وبيوتهم، وتتفاقم خسائرهم الزراعية وفي قطاع تربية المواشي التي تشكل المصدر الأساس لمعايشهم يوماً تلو يوم. وغداً عندما تنتهي الحرب، لن يجدوا مَن يمدّ لهم يد العون أو يعوّض عليهم هذه الخسائر الجسيمة التي ستنهكهم إلى سنوات وسنوات مقبلة».

معايش أبناء العرقوب

يعيش أبناء قرى العرقوب من الزراعة بدرجة أولى ومن تربية المواشي وقفران النحل. ويساهم ارتفاع قرى المنطقة ما بين 600 متر و1500 متر عن سطح البحر في نمو وازدهار الأشجار المثمرة لا سيما الزيتون والأفوكادو والكرز والتفاح والإجاص والجوز والخوخ والدراق والمشمش والعنب، إلى الزراعات الموسمية المختلفة.

وبين شبعا وكفرشوبا ثمة ثروة حيوانية تبلغ أكثر من 20 ألف رأس ماعز تدرّ الحليب واللبن واللحوم على أصحابها وأبناء المنطقة، تضاف إليها أكثر من 3000 قفير نحل.

وتسببت الحرب التي اندلعت في أكتوبر 2023 في نزوح نحو 90 في المئة من سكان كفرشوبا وشبعا وكفرحمام وراشيا الفخّار وإلى حركة نزوح فاقت الـ50 في المئة من بقية قرى العرقوب.

ووجد المزارعون أنفسهم وسط جحيم النار والدمار لا يقدرون على جني محاصيلهم الزراعية، لا سيما مواسم الزيتون التي كانت تشكّل لهم مصادر غذاء ومعيشة لا تقلّ حصة كل بيت منها عن 30 أو 40 تنكة زيت – وقد وصل سعر التنكة الواحدة إلى نحو 150 دولاراً – وتفوق عند أصحاب البساتين الشاسعة 200 تنكة.

كذلك لم يتمكنوا في الموسم الماضي الذي صودف نضوجه مع احتدام القصف والعدوان بين أكتوبر ونوفمبر 2023 من قطاف أكثر من 30 في المئة من أشجار الزيتون وفقط من الحقول القريبة من الأحياء السكنية.

الحرب وقطاع الماشية

في شبعا لوحدها، ثمة 60 مزارعاً من أصحاب المواشي وجلّها من الماعز التي يمكنها تحمُّل المناخ الشتوي البارد إلى درجة الصقيع في تلك المنطقة المرتفعة.

ويؤكّد المزارع محمّد حسين زهرا من شبعا «أنّ خسائر الرعيان كانت جسيمة إذ لم يتمكّنوا من إيجاد مَزارع بديلة آمنة في خارج المنطقة لنقل قطعانهم إليها، ومَن وجد كانت كلف الاستئجار عالية جداً ومرهقة لهم، لذا وجدوا أنفسهم مضطرين إلى بيعها، وقد باعوا رأس الماعز على سبيل المثال بنحو 40 و50 دولاراً، بينما يساوي في الحالات العادية بين 150 دولاراً و200 للمعزاة الأم. وكانت أملاك الرعيان من القطعان تراوح بين 100 رأس إلى 700 رأس، لكن الحرب دهمتْهم كما الجميع وكانوا أمام حلّيْن أحلاهما مُرّ: إمّا ترك قطعانهم تحت القصف والعدوان وقد نفقت مئات الرؤوس منها جراء القصف على شبعا وكفرشوبا وحلتا وغيرها، وإما بيعها وقد استغل التجار حاجة الرعيان والمزارعين فحرقوا الأسعار وكانت الخسائر كبيرة».

العائلات تنزح

تقطن في كفرشوبا نحو 350 عائلة بشكل دائم، وفي حلتا 150 عائلة، ونحو 27 عائلة في وادي خنسا التابع للبلدة.

تعتاش غالبية العائلات من الزراعة، وكذلك من تربية الماشية. ونزحت الغالبية وعلى دفعات، إلى حدّ فاق الـ90 في المئة، إلى حاصبيا والهبّارية ومرج الزهور والرفيد (راشيا)، والبعض حلّ في الأشهر الأولى من النزوح عند أقارب في صيدا وفي بيروت، ثم ما لبثت هذه العائلات أن استأجرت بيوتاً في أماكن النزوح وبأسعار عالية تجاوزت 300 دولار للشهر الواحد.

يقول المزارع خيرالله عبدالعال من كفرشوبا: «في الأيام العادية ينتظر أهالي كفرشوبا والجوار موسم الزيت والزيتون لشراء حطب التدفئة والمازوت وتسجيل أولادهم في المدارس وتحضير مؤونة الشتاء التي تكفي موسم المطر بأكمله حتى الربيع. لكن المواسم لم تُقطف، ومرّ الشتاء على الأهالي وهم في حال نزوح يستمر إلى اليوم، وقد مُني المزارعون بخسائر كبيرة لم تتوقف حتى الآن، وتمثلت بخسارتهم أخيراً مواسم الكرز والخوخ والدراق ومختلف الأشجار المثمرة، في وقت تحولوا إلى عاطلين عن العمل، فكيف سيمكنهم الصمود أمام هذا الواقع المرير»؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى