النبطية عاصمة قرانا
محمد فرحات – المفكرة القانونية
في جرجوع التي “تقف” على بعد بضعة كيلومترات من النبطية ومنذ فتحت عيوني على الدنيا بدأت ثلاث سيارات مرسيدس 180 تشكّل مع شكلها المدبّب بداية التحوّل لقريتنا.
منذ أكثر من خمسين عاماً، صارت النبطية مركزاً إدارياً وتجارياً للقرى القريبة منها. تحوّلت إلى مدينة مزدهرة يقصدها القرويون خاصةً للتزوّد بالسلع والحاجات التي لم تكن متوفّرة في أمكنتهم التي كانت تعتبر مناطق نائية قبل دخول سيّارات “السرڤيس” إلى الخدمة.
خدمة النقل من جرجوع إلى النبطية أدخلها إلى قريتنا ثلاثة أشخاص من تلك المدينة ذاتها، وهم المرحوم محمد عبدو بيطار، أبو عبدو، وشقيقه المرحوم منيف بيطار، أبو شكيب، والمرحوم تيسير جابر، أبو سعيد.
ابتاع هؤلاء الضيوف اللطفاء تلك “المارسيدسات” كما ابتاعوا قطع أرض صغيرة في قريتنا شيدوا عليها منازل متواضعة ليتحوّلوا وعائلاتهم رويداً رويداً إلى جزءٍ من نسيج القرية بعد أن اقترن إثنان منهم بسيّدتين “جرجوعيتين”، غير الثالث، المرحوم أبو شكيب، الذي كان اقترن بسيّدة من النبطية وشيّد لنفسه منزلاً في أقصى شمال القرية، بينما اختار أبو عبدو السّكن على بعد أمتار من منزلنا في زاروب الكنيسة والجامع، وتيسير جابر أبو سعيد فضّل المكوث في مكان قريب من البيدر.
تلك السيارات الثلاث غيّرت طريقة حياة أهالي قريتي إلى الأبد. فقد تحوّل يوم الإثنين، وهو يوم السوق الشعبي في النبطية، إلى مساحة سعادة لنا ولأمهاتنا، اللواتي كنَّ يتخلّيْن عن ثياب العمل العتيقة لصالح ثياب أنيقة قاصدات السوق بحثاً عن سلع يستحيل إيجادها في القرية أو للبحث عن بضائع أرخص ثمناً.
خلال رحلتي الأولى إلى النبطية تعرّفت إلى الفلافل ورائحتها وإلى صراخ الباعة في سوقها الشهير ورأيت عن بعد كيف تلتهم الناس “صحون المدلوقة” الغنيّة بالقطر وكسر الفستق الحلبي داخل “محلّ الديماسي”، ذلك المكان الذي، وعندما شاهدته لأوّل مرّة، أعاد ذاكرتي إلى صُوَر الآثار القديمة المطبوعة على صفحات كتاب مادة التاريخ في المدرسة.
خلال زيارتي الأولى إلى النبطية لم أحصل إلا على سندويش فلافل. كان ذلك بدل موافقتي على الجلوس على كرسي “الحلاق الأخرس”. أجبرتني رائحة الفلافل على الرضوخ لتلك المقايضة التي عرضتها عليّ أمي والتضحية بشعري الطويل الجميل الذي كنت أرفض أن يمسّه مقص “أبو أكرم” صديق أبي وحلّاق القرية. كنتُ أحبُّ شعري الطويل لدرجة الهوس بالنظر إليه عبر كلّ مرآة أصادفها، ولكن رائحة الفلافل والرغبة في تذوقها جعلتني أغضّ النظر عن ذلك الشعور وأن أسلّم رأسي ليد ومقص “الأخرس”، الذي لم يُفرج عنه إلا بعد أن جعله يبدو كرأس جلبوط خرج للتو من بيضة.
صرتُ أحبّ النبطية. ربّما بسبب طعم الفلافل والجلوس في السيارة والأمل بالحصول على “صحن مدلوقة” في الزيارة التالية. كان “المشي في السيارة”، كما نسميه في جرجوع، حلماً يطغى على كلّ أحلام أطفال القرية، رغم أن رحلتي خلال الذهاب والإياب كنت قد أمضيتها جالساً في حضن أُمي كي لا أحتل مكان راكب آخر ونضطر عندها إلى دفع بدل “راكبيْن” اثنين.
لسنوات وسنوات ترسّخت في ذهني قناعة بأنّ النبطية تعني الفلافل والفلافل تعني النبطية. بل أصبحت أعتقد بأن الفلافل هي ركن أساسي لكلّ المدن، إلى أن تحقّق حلمي لاحقاً بتناول “صحن مدلوقة” في “قلعة الديماسي الأثرية”. أذكر كيف كان مزيّناً بكسر الفستق الحلبي والقطر مع القليل من “ماء الزهر”. تجربة “صحن المدلوقة” حررتني من السيطرة المطلقة “لمقلى الفلافل” على وجداني.
كان أبي يقصد النبطية مرةً في كلّ عام بعد موسم جني التفاح. كان “يحجز صندوق سيارة أبو عبدو الحمراء”مع كلِّ مقاعدها لنقل صناديق التفاح الطازجة لبيعها لتاجر نبطاني من آل الدقدوق يشتريها منه في كلّ عام، والذي كان يردّد على مسامع أبي في كلّ مرة: “مش رح بحبش بوَلا سحّارة من تبعولك يا أبو علي، بعرف إنو كعب السحارة عندك متل وجّها”.
بعد بيع التفاح وشعوره ب”بحبوحة المال في جيبه” كان يعرّج على سوق اللحم مقابل “موقف جرجوع” في ساحة النبطية ليجلب لنا إلى القرية “كرتونة سفيحة نبطانية” كاملة. كنا ننتظر ذلك “الحفل السنوي” الذي كان ينسينا تعبنا في ريّ شجر التفاح في حقلنا الصغير قرب “نبع الطاسة” وقطف ثماره قبل ترتيبه في داخل الصناديق الخشبية.
ما كان يذهلني في “الأشياء النبطانية” الجميلة هو ثباتها الدائم وعدم تغيّرها مع مرور الوقت. وكأنّها وجدت لتحمل كل صفات الكمال، فلا السنون غيّرت رائحة الفلافل ولا طعم المدلوقة مع كسر الفستق الأخضر ولا صراخ تجار سوق الإثنين ولا دخان الشواء المتسرب من مدخل سوق اللحم. وكأنّ الخالق قد ضخّ في داخل هذه الأشياء عناصر خالدة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير مع الزمن. أو وكأنّه تقصّد أن يزرع عناصر استثنائية خالصة في مدينة قلب جبل عامل كي لا يستطيع أحدٌ إلا أن يعلق في شباك حبّها إلى الأبد.
تفاصيل تلك المدينة جعلتنا نعتقد بأن كلّ حاجاتنا صارت بين أيادينا وبأنّ حياتنا صارت سهلة ممتعة. بعد الصعود إلى “سيارة السرڤيس” كانت الابتسامات ترتسم على وجوه كلّ المسافرين، وتصبح النقاشات خلال الثلث ساعة تلك، وهي مدة السفر من جرجوع إلى النبطية، تتمحور حول “أسعار محمّد ملّي وأبو هشام قطيش” وهما تجار ملابس وأحذية، إلى “محل قميْحة” الذي كان يحتوي على “كلّ شيء”، كما كان يُقال، إلى كفاءة “استيديو رامز” في التصوير الفوتوغرافي، حيث كان قد ابتدع فكرة رسم “حسّونة” سوداء على خدّ كلّ صبية قبل تصويرها، خاصةً للّواتي كانوا بحاجة إلى وضع صورهن على طلب التقدم إلى امتحانات السرتيڤيكا والبروڤيه، وكيف أنّ وصوله لتلك الفكرة جعل من الاستيديو الخاص به مقصداً لكل الفتيات، قبل أن ينتقل الحديث إلى موضوع جودة اللحوم في “سوق اللحم” وسرد القصص حول “ضُروب الغِش باللحم”، وكيف أنّ “لحمة البدوي” تفوق بجودتها اللحوم المعروضة في سوق اللحم.
كانت الرحلة إلى النبطية تعني البعد عن تفاصيل العمل في الحقول وتعب الزراعة والرّي وتربية المواشي وهموم تحضير مؤونة الشتاء وحطب التدفئة. كانت مساحة للتسوّق وشراء الملابس والأحذية الجديدة أو لإعادة ترميم أحذية قديمة عند إسكافييها الشهيرين، وربّما لشراء القليل من اللحوم أو السمك المثلّج، بالإضافة طبعاً إلى “سندويشات” الفلافل، التي كنا ننتظر وصولها من المدينة لنلتهمها بشغف رغم أنها كانت تصل إلينا وقد أضحت باردة وغير طازجة.
أذكر كيف تحوّلت النبطية إلى مدينة “اطلب تجد”. صارت الناس تحمل كلّ ما تخرّب وتعطّل عندها من أشياء، ابتداءً من الأحذية البالية وصولاً إلى الساعات والمنبّهات. حتى أنّ أحد أبناء النبطية قد حوّل إحدى الزوايا إلى دكانٍ لصيانة الطرابيش العتيقة، وآخر أدخل إلى المدينة ماكينة خاصة لعصر الجزر ركّزها على زاوية من زوايا الساحة. كنّا ننظر إليها بذهول واستغراب كونها تخرِج من الجزر القاسي البُنية سائلاً منعشاً ولا ألذّ.
رويداً رويداً استطاعت النبطية أن تجعل من نفسها عاصمة لقرانا. حتى صرنا نعتقد بأننا لسنا بحاجة لأيّ شيء ما دامت النبطية في جوارنا.
كثافة الذكريات التي نملكها عن علاقتنا بتلك المدينة وتفاصيلها لا تجعل مما نكتبه سوى حصة قليلة من بحرها. كثيرة هي الأحزان التي تفجرّت في داخل كلّ منا مع القنابل التي فتكت بعاصمة قرانا.
دمعة لك يا نبطية… ودمعة لكل حجر منك، دمعة لذكرياتنا معك، والكثير من ورود الحب لك.