كامل جابر – اندبندنت عربي
من يستعرض الذاكرة المتعلقة بالحرف التقليدية التي كانت تنتشر في سوق صيدا القديمة ويقارنها بما تبقى منها إلى اليوم، سيجد أن عدداً كبيراً منها أقفل أبوابه مسدلاً الستار على مجد حرف الآباء والأجداد التي كانت تتشكل منها أدوات الناس وأثاث بيوتها ومقتنياتها وتجهيزاتها المختلفة.
ومردّ ذلك بإجماع التجار وأصحاب الحرف إلى سيادة البضائع المستوردة الجاهزة من بلاستيك واسفنج ومعادن ومواد مصنعة، فأزاحتها جانباً على رغم أنها ليست بمتانة إنتاج الحرف اليدوية التي لم تزَل أدواتها تعيش حتى اليوم منذ عشرات السنين.
قليلة هي المحترفات التقليدية التي ما زالت تفتح أبوابها في عاصمة الجنوب صيدا، تحديداً في أحيائها القديمة، المعروفة بـ”البلد القديمة” القريبة من القلعة البحرية الصليبية وخان الإفرنج، وتضم عدداً من المتاحف العريقة مثل متحف الصابون (عودة) ومتحف قصر دبانة والحمامات التركية والكنائس والمساجد الموغلة في التاريخ، ناهيك عن الأسواق المختلفة مثل أسواق الأقمشة و”البياضات” والألبسة والنجارين والحلويات القديمة و”الكندرجية” والمقاهي وغيرها، وتعتبر في الوقت عينه المربع السياحي الذي يرتاده السياح والزوار من العالم ومختلف المناطق اللبنانية.
هي حرف قليلة أو نادرة كانت تشكل سابقاً العمود الفقري للسوق الصناعية التقليدية في صيدا والجنوب، وتراجعت في الربع الأخير من القرن الماضي مع سطوة البضائع المستوردة والجاهزة وتطور مفرداتها الصناعية وسيادة الأدوات البلاستيكية والمعدنية الخفيفة الصينية واحتلالها الأسواق الشعبية والمتاجر، فأبهرت الناس الذين سرعان ما بدأوا يتخلون عن مقتنياتهم القديمة وجلها من الخشب والنحاس والحديد المصنّع المعروف بالحديد العربي واستبدالها بالبضائع السريعة الاستهلاك التي يمكن تبديلها في أي وقت، فيما تحولت البضائع الحرفية المحلية إلى مقتنيات تراثية تستخدم للزينة فقط.
صناعة الكراسي الخشبية
في مقابل سوق السمك، عند الواجهة البحرية وميناء صيدا الشمالي والقلعة البحرية يصمد محترف “كوسا” لصناعة الكراسي الخشبية المربعة والقليلة الارتفاع. تنتشر أمامه مجموعات من هذه الكراسي المصنعة حديثاً وألواح مستطيلة كبيرة من الواجهات المقصبة التي تستخدم في بناء الخيم البحرية أو النهرية. عند مدخل المحترف ينهمك سهيل كوسا “أبو عمر” في صناعة كرسي خشبي بخيطان الكتان الملونة التي أدخلت أخيراً في صناعة هذه الكراسي مع تراجع الطلب قليلاً على الكراسي المقشّشة بسبب غلاء أسعارها وبضاعتها المستوردة، إذ لم يعُد هذا القش ينتج محلياً كما كان سابقاً.
“كنا نشتريه أو نعده بأنفسنا، ومع ذلك نواصل صناعة أعداد منه، إنما بناء على الطلب أو بكميات محدودة، كي ننوع بكراسٍ خشبية أخرى ملبسة بخيوط الكتان أو النايلون المختلفة الألوان بغية تشجيع الزبائن أكثر وإرضاء أهوائهم، وبأسعار أقل”، يقول “أبو عمر”.
يباع الكرسي الواحد المطعم بخيوط الكتان أو النايلون بـ 10 دولارات، بينما يبلغ سعر كرسي القش 15 دولاراً، ويشير كوسا إلى “إمكان طلاء الهيكل الخشبي للكرسي على الطلب، مما سيرفع من سعره إلى حدود 20 دولاراً”.
وعن هذه الصنعة الموغلة في القدم، الباقية من التراث العثماني، يوضح كوسا أنها “حرفة لا تغني صاحبها اليوم لكنها تستر، ونحاول قدر الإمكان الإبقاء عليها وسط هجمة المستورد من البلاستيك الذي لا يعمر طويلاً وهو معرض بأي لحظة لأن ينكسر، بينما يعيش الكرسي الخشبي المتين والمصنوع من القش 100 سنة، ويمكن استبدال أي قطعة منه في حال تلفت. لكن مع الأسف، لقد أثرت الكراسي البلاستيكية كثيراً في استمرار نمو حرفتنا واندفاع الناس نحوها”.
نتمنى تشجيع الدولة
قليلون جداً “الصيداويون” ممن يقتنون هذه الكراسي ذات النكهة التقليدية، لكن بقيت في بعض بيوتهم كراس خشبية مصنعة من قصب عريض كان يطلق عليه اسم “رابعات”، وهو رقيق عريض قدر إصبع، ينبت قرب المستنقعات أو بمحاذاة الساحل، كان يقطف ويصنع لكن شغله كان أصعب بسبب قصر سبلاته نحو متر واحد فقط ويحتاج إلى وصل مستمر وإلى روح طويلة.
أما زبائن كراسي اليوم بحسب كوسا “فهم من جنوب لبنان وشماله ومن بيروت والجبل، يشترونها للحدائق والشرفات باعتبارها من المقتنيات التراثية التي يمكن حملها ونقلها بخفة وسهولة في النزهات والمشاوير إلى البحر أو الجبل. أما خشبها فمحلي من أشجار السرو، ويمكن كذلك صناعتها من خشب الشوح أو السويد والزان، لكن من المؤكد أن سعرها سيرتفع”.
صاحب المحترف الذي يضم في جنباته نحو 300 كرسي جاهز للبيع، يتمنى على الدولة ووزارتي الثقافة والسياحة والبلديات “إدراج هذه الحرفة وغيرها من الحرف التقليدية على الخريطة السياحية التراثية وتشجيعها ودعمها كي تبقى ولا تنقرض لأنها تشكل جزءاً من الهوية التراثية الخاصة بمدينة صيدا”.
محترفات “البلد” في ركود
إلى مسافة غير بعيدة، وقريباً من “حارة اليهود” داخل صيدا القديمة “البلد” يستمر محترف خشبي آخر لصاحبه محمد الشامية، إذ لا ثالث لهما بعدما أقفلت بقية المحترفات المتخصصة في صناعة الكراسي الخشبية التراثية الصغيرة. “تأسس هذا المحترف على أيام جد جدي، أي منذ نحو 150 سنة” يقول الشامية، ويضيف أنه “عدا عن صناعة الكراسي المقششة، نصنع أدوات احترافية أخرى هي أشبه بمنحوتات تستخدم في المطبخ اللبناني على نحو المناخل والملاعق والمداق والشوابك التي ترق العجائن والأجران وقوالب أقراص المعمول والكعك، وكنا نضيف إليها القباقيب لكن أوقفنا تصنيعها بسبب تراجع الطلب عليها، مثلما تراجع الطلب على الكراسي بسبب سعرها وكلفتها”.