قصّة الشاب الجنوبي عبد ضاهر الذي عُثر عليه متجمّدًا في الغابة بعد أن غدرت به ‘مافيات التهريب’..!
“لم يعد الموت على طريق الحلم الأوروبي حكراً على أبناء الشمال والمخيمات الفلسطينية والسورية. صار للجنوب حصة في جلجلة اليأس التي تجبر اللبنانيين على رمي أنفسهم في تهلكة الهجرة غير الشرعية. عبد الكريم ضاهر، الذي ولد في صور عام 1996 بعيداً عن حولا، بلدته المحتلة آنذاك، انتهى جثة هامدة. قتله الصقيع في غابة بلغارية بعدما تخلّت عنه مافيات تجار البشر.
سأبني لك بيتاً
لا يملك آل ضاهر منزلاً في صور لتقبّل العزاء بنجلهم الأكبر، الذي بلغهم نبأ وفاته يوم الجمعة الماضي، بعد فقدان الاتصال به منذ منتصف كانون الأول الماضي. في منزل عمه، التمّ شمل والدته وإخوته الخمسة حول الفاجعة التي توّجت مآسيهم مع الحرمان والفقر. حضرت الوالدة تمام إبراهيم مع بناتها الثلاث من حولا، التي انتقلن إليها قبل سنوات قليلة بعد ارتفاع تكاليف السكن والمعيشة. شقيقاه بقيا في المدينة حيث يعملان ويستأجران منزلاً صغيراً.
من هذا الضيق والشتات، انسحب عبد الكريم، في 24 تشرين الثاني الماضي، ظناً منه بأنه سينال الفرج الموعود له ولأسرته. قبل سفره بأسبوع، زار والدته حيث تسكن في المنزل الذي قدّمه لها ابن عمها في حولا. حاول إقناعها بجدوى دخوله إلى أوروبا عبر طرق التهريب، بمساعدة أحد المهرّبين. ولتأمين المال، باع منزله وبسطة الخضر التي يعتاش منها ونقل زوجته وطفلته ذات السنة وخمسة أشهر إلى منزل أهلها. لم تقتنع أمّ عبد وإخوته بنهاية وردية لطرق التهريب. حذّرته وذكّرته بالموت الذي انتهى إليه مهاجرون قبله، منهم ضحايا مركبَي طرابلس وطرطوس اللذين غرقا في البحر في الطريق إلى أوروبا. لكن عبد طمأنها إلى أن وسيط التهريب أكدّ له أنه لن يعبر أي بحر، بل سينتقل بالطائرة من تركيا إلى بلغاريا وصولاً إلى فرنسا حيث سينزل فيها لطلب اللجوء. وعدها بالأفضل: «سأسافر لأحسّن وضع إخوتي وأعمّر لك بيتاً».
مافيات التهريب
منذ أن غادر، لم يقطع عبد التواصل مع أهله وأصدقائه. على هاتف علي صفي الدين، رئيس مركز الدفاع المدني في صور الذي تطوّع لديه عبد وشقيقه هادي، عشرات الرسائل التي «تثبت بأنه وقع ضحية مافيات تجارة البشر». يشير صفي الدين إلى أن وسيم ق. أحد أصدقاء عبد المقربين، أقنعه بالخطوة. «تحمس عبد الذي لم يسافر في حياته. في بلده، سكّرت معه. في عمر الثامنة، بدأ بالعمل لإعالة إخوته. ومراراً حاول تشييد غرفة ليسكن فيها، لكن القوى الأمنية كانت تهدمها لمخالفتها. بمليون واسطة، ركّب جدرانها وسقفها بألواح الزينكو» قال صفي الدين.
وثق عبد بوسيم، ولم يكن يعلم بأنه «غادر لبنان لأنه مطلوب بمذكرات توقيف بتهم النصب والاحتيال. ثم استقرّ في تركيا وعمل مع مافيات التهريب». عبد كان أحد ضحاياه مع شريكه السوري المفترض (يدعى أبو عدي). وفق رسائله، يظهر بأن مبلغ العشرة آلاف دولار الذي كان بحوزته قد صادره المهرّبون مع جواز سفره. في إحدى رسائله ذكر أن «وسيم يتحمّل المسؤولية في حال أصابه مكروه». وفي أخرى يشير إلى أن «رأس المافيا روسي ومعه أشخاص من جنسيات أخرى، مجرمون يتعاطون المخدرات دوماً». قبيل فقدان الاتصال به، كتب لرفيقه يقول: «يلعن حياتي ما في حدا منيح»، واعداً إياه بأنه في اليوم التالي سيوضّب أغراضه ويعود: «إذا ما هربت رح موت هون».
العثور على عبد متجمداً
لم يتمكن عبد من النجاة بحياته. آخر رسائله في صباح 17 كانون الأول، أرسلها إلى والدته من إحدى غابات بلغاريا عند الحدود مع تركيا. طلب منها أن تسامحه. بعد انقطاع أخباره، تواصل صفي الدين مع لبنانيين مقيمين في بلغاريا للمساعدة في العثور على عبد، وتعرّف إلى سيدة تتحدّر من مدينة صور بدأت بالبحث. كما تواصل مع المهرّبين الذين كان عبد قد أرسل أرقام هواتفهم. أحدهم أرسل مقطعاً مصوّراً التقطه رجل مقنّع يظهر عشرة أشخاص منهم عبد، في غابة ويتحضّرون بحسب قوله لاجتياز الحدود نحو بلغاريا. وبعد أيام طويلة في الموقع الذي اختفى فيه، تبلّغت السيدة من الشرطة البلغارية أنها عثرت على جثته في 21 كانون الأول متجمّداً في الغابة.
على السفارة اللبنانية في صوفيا تقديم طلب رسمي لاستعادة الجثة
بدموع حارة وصوت متهدّج، طلبت أم عبد من الله أن يردّ حق ابنها «الشهيد المظلوم الذي تعرّض للخديعة من وسيم وشركائه الذين أخذوا ماله وجواز سفره وتركوه وحيداً غريباً». لم تكتف بعدالة السماء، بل توجهت أول من أمس إلى مخفر صور وقدمت دعوى بحق وسيم وأبو عدي ومن يظهره التحقيق بتهمة التسبب بقتل ابنها والاحتيال عليه.
على خطٍ مواز، نشطت الاتصالات بين بيروت وصوفيا لاستعادة جثمان عبد. عضو بلدية صور علي عطية (المتخرّج من بلغاريا) أشار في حديث إلى «الأخبار» إلى أن السفارة البلغارية في بيروت وضعت يدها على قضية عبد، وتعمل على نقله إلى مسقط رأسه، بحسب الأنظمة المعتمدة. وفي هذا السياق، تم التواصل مع السفارة اللبنانية في صوفيا لتقديم طلب رسمي في هذا الخصوص إلى الخارجية البلغارية. وما بينهما، حصل هادي، شقيق عبد، على موافقة استثنائية من الأمن العام لاستصدار جواز سفر بصورة سريعة يمكنه من السفر إلى بلغاريا للتعرّف إلى جثة شقيقه، على أن تسهّل السفارة البلغارية حصوله على تأشيرة.
الاخبار