“النبطية غريبة على العَين”…علي مزرعاني يرمّمها بأرشيفه
تعرضتْ مدينة النبطية لنكبة. هكذا يصف الأهالي العائدون، حال مدينتهم التي ذاقت أهوال البطش الإسرائيلي خلال غيابهم القسري، فتكبّدت خسائر هائلة لا تقتصر على الأرواح والبنى التحتية والمصالح الاقتصاية، وانما أصابت روح المدينة وهويتها. هي بالطبع، ليست الجولة الأولى لمدينة النبطية مع العدوان الإسرائيلي، لكنها الأعنف، التي بمطاولتها سوق المدينة التاريخي وبيوتها التراثية، ضربت عمق الذاكرة النبطانية. هذا ما دفع سكان المدينة، في اللحظة التي سرى فيها وقف اطلاق النار، للهرع الى مدينتهم، لتفقّد ما تبقّى منها، وما طواه الركام.
من هؤلاء العائدين، ابن النبطية والموثّق الخاص بها، الباحث علي حسين مزرعاني، الذي كانت لنا مقابلة معه، حاولنا خلالها الامساك بخيوط الذاكرة الجمعية التي تشكّل هوية المدينة وأهلها.
(انتفاضة عاشوراء 1983)
لم يكن علي مزرعاني قد تجاوز الثانية عشره من عمره حين بدأت تستهويه هواية التوثيق وتدوين اليوميات. ومع اندلاع الحرب الأهلية العام 1975، ومن ثمّ الإعتداءات الإسرائيلية العام 1977، انصرف مزرعاني عن كتابة اليوميات “الصغيرة”، كما يقول، إلى توثيق الأحداث الأمنية والسياسية بشكل يومي: اعتداءات، خسائر، جرحى، قتلى، أضرار عمرانية، إلخ… حفظ هذه الأحداث في بقايا دفاتره المدرسية، قبل حصوله على كاميرا كهدية جاءته من الاتحاد السوفياتي العام 1978، “فإكتمل عندها التوثيق، بالكتابة والصورة،” على حدّ تعبيره.
الصورة الأولى التي التقطتها عدسة مزرعاني كانت للأحداث في حيّه في النبطية- حيّ السراي- الذي تعرّض لاعتداءات إسرائيلية ودمار وهدم بيوت. يقول مزرعاني مستذكراً: “بدأت بتوثيق كل حدث على حدة، كهوايةٍ في البدء، لكنها ما لبثت أن تحوّلت بالنسبة إليّ إلى “واجبٍ”، خصوصاً أنه لم يكن هناك في النبطية من اهتمام بالتوثيق والأرشفة”.
وعليه، أمضى مزرعاني نصف قرنٍ في بناء أرشيف ضخم لمدينة النبطية، بالصورة والوثيقة والنص، اعتباراً من أواخر القرن التاسع عشر وحتى اللحظة. وقد جمع هذا الأرشيف، الذي يغطّي التاريخ السياسي والوطني للنبطية، من خلال مراجعاته للصحف، إضافة الى مقابلته أشخاصاً عاصروا تلك الفترة.
(سوق النبطية 1978)
يشرح مزرعاني أن ظهور النبطية على السكة الاجتماعية والحضرية- السابقة للبنان الكبير- يعود إلى أواخر القرن 19، مع تعيين السلطات العثمانية الزعيم رضا بك الصلح (والد رياض الصلح) حاكماً مستقلاً للنبطية في العام 1883. لقد كان الصلح شاباً نشيطاً، وفق مزرعاني، وقد أعجبته النبطية التي كانت عبارة عن قرية صغيرة، فأسس مدرسة ومجلساً بلدياً والسراي العثماني، ومنه استمدّ حيّ السراي اسمه وهو أقدم أحياء النبطية..
ومنذ ذلك الحين، تحوّلت المدينة إلى نقطة ارتكاز ثقافية واجتماعية واقتصادية، يتوافد إليها أبناء القرى المحيطة في جبل عامل، بحثاً عن الدراسة أو التبضّع أو إحياء المناسبات الدينية والاجتماعية. وقد خرج من المدينة عدد من العلماء، وعلى رأسهم حسن كامل الصباح، فضلاً عن أدباء مثل الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ضاهر والشيخ الجدّ عبد الحسين صادق، إمام مدينة النبطية، وكان أيضاً أديباً وشاعراً.
من الناحية السياسية، يشير مزرعاني إلى أنّ النبطية أدت دوراً مهماً خلال فترة الانتداب الفرنسي في مطلع القرن العشرين، وذلك بعد فشل أبناء جبل عامل في التصدّي للإنتداب. وقد عُيّن بكوات المدينة حكاماً لمنطقة الشقيف، ومنهم يوسف بك الزين الذي كان ممثلاً لمنطقة النبطية. وفي الأربعينيات، إبان الاستقلال، تشكّلت الأحزاب السياسية وكان أولها الحزب الشيوعي ومن ثم القومي السوري، يليهما حزب البعث والقوميين العرب في الخمسينات. ومن اللافت، يقول مزرعاني، أنّ مدينة صغيرة كالنبطية تتجاوب شعبياً مع معظم الأحداث السياسية على مستوى العالم والتي تجد لها أصداء في المدينة من خلال الخروج بمظاهرات وعقد الاجتماعات واتخاذ المواقف.
أما على الصعيد الإجتماعي، فيُرجع مزرعاني التحوّل الأساسي في واقع المدينة واقتصادها إلى جرّ المياه من قبل يوسف بك الزين في العام 1924. وقد تزامن هذا الأمر مع توسّع دائرة الملّاكين وأصحاب رؤوس الأموال المغتربين، ما أدّى إلى زحف العمران إلى خارج حي السراي، حيث شُيّدت البيوت الجميلة في حيّ البياض وحيّ الميدان. وهي بيوت مهمّة على الصعيد التراثي، كما يشرح مزرعاني، فهي مبنية من صخر وقرميد وقناطر ونوافذ عالية ومضويات وحفر. كما يشير الباحث إلى أن نسبة كبيرة منها بُنيت في حيّ البياض من قبل المجموعة التي هاجرت إلى افريقيا في الثلاثينات والاربعينيات، أي في بداية موجات الاغتراب.
ومن المعالم العمرانية الأهم في النبطية، دارة محمد بك الفضل، أحد رجالات الاستقلال الذي وقّع على العلم اللبناني. وهو يعود إلى عشرينيات القرن الماضي، وبُنيَ على نمط معماريّ إيطاليّ: قرميد وقناطر وواجهة من النحوت الصّخريّة والزركشات الهندسيّة والنوافذ المُقنطرة. وقد تعرّضت الدارة التراثية إلى أضرار بسبب القصف الذي طاول حيّ الراهبات في النبطية، وكان هناك توجّس من فقدانه لكنه نفَذ من المصير المشؤوم الذي كان من نصيب مبانٍ تراثية أخرى، ومنها دارة آل شاهين والمقرّ السابق للمجلس الثقافيّ للبنان الجنوبي في حي الميدان.
ترميم ذاكرة المكان
اليوم أكثر من أي وقت مضى، تتجلّى أهمية التوثيق، بما هي حفظ للذاكرة المعنوية في مواجهة الدمار الماديّ الذي تتعرّض له جغرافيتنا. يمكن للسردية التاريخية أن تتعرض للضياع والتزوير، يقول مزرعاني، خصوصاً حين يكون عدوّك متمرّساً في التزوير، “لكن حين تتوافر بين يديك كل المعلومات والصور والوثائق، لا يمكن لأحد أن يمارس الزعبرة، ومن هنا تزداد أهمية توثيق الماضي والتأريخ، منعاً لأي تشويه في الحاضر أو المستقبل”.
(تظاهرة ضد الحرب 1975)
يحصي مزرعاني خسائر النبطية من حيث الأرواح التي أزهِقت، والحجارة التي حطِّمت، وكذلك الوثائق التي فُقِدت تحت الركام. ويشرح أن الخسارة هي خسارة الوثيقة، إن لم تكن هناك نسخة ثانية، والأمر نفسه بالنسبة للصورة. وثمة خسائر كبيرة في هذا الإطار، خصوصاً في المرحلة الأخيرة من العدوان الإسرائيلي، مع تدمير ونسف وضياع الكثير من الأرشيفات والأوراق والصور في البيوت التي تم هدمها.
لا يخفي مزرعاني نبرة الأسى في صوته حين يقول: “لقد ضاع جزء كبير من الذاكرة المكتوبة، فقد رحل كبار السنّ منذ زمن لكن مخلّفاتهم من أوراق وبيانات كانت لا تزال موجودة في بيوت دمّرت”. كذلك، يأسف ابن المدينة أن جزءاً من الذاكرة التراثية تم محوه، لا سيّما الوسط التجاري وأساسه “سوق الإثنين” المستمر منذ خمسة قرون. هذا فضلاً عن بقايا التراث من مبانٍ عمرها مئة عام كانت النبطية “تشوف حالها فيهن”. ويعتبر مزرعاني أن جزءاً كبيراً من الهوية الاجتماعية التي كانت تحملها هذه المحال والمباني من الصعب أن يعوّض.
ولأنّ التجارب القاسية التي مرّت بها المدينة خلال شهري الحرب هي أمر لا ينبغي تخطيه، سعى الباحث خلال الفترة المنصرمة إلى توثيق الأحداث اليومية التي شهدها قضاء النبطية، بالإضافة إلى مشاهد الدمار وحكايا الناس التي صمدت في المدينة. وسيعمد مزرعاني إلى جمعها في كتاب يظهر تحوّل المدينة بين السابق واليوم. “إنه مشروع صعب ومرهق نفسياً”، يقول مزرعاني، “لكنه ضروري”.
مع دخول وقف اطلاق النار حيّز التنفيذ، كان علي مزرعاني على رأس العائدين إلى مدينة النبطية. وقف بكاميرته متأمّلاً الدمار، فشعر أن المدينة، بصورتها الحاضرة والمحزنة، “تبدو غريبةً للعين التي ألفتها”. يختم مزرعاني بالقول: “لم نعد نتعرّف على الشوارع والأحياء والبيوت. إنه أمر محزن، ونحتاج إلى الوقت لكي نعيد ترميم المدينة في أذهاننا”.