تقارير

105 أعوام رسمت ملامح الحاجة سعديّة حجيري… الحياة كما يجب أن تُعاش

تعيش الحاجة سعديّة حجيري، البالغة من العمر 105 أعوام، أيامها بهدوء وسلام في بلدة عرسال البقاعية. ملامح وجهها، التي رسمت فصول حياتها، تحكي تاريخاً طويلاً من النضال والصمود. تتمسك الحاجة سعديّة بحياة بسيطة تمدّها بالقوة والصبر.

في عينيها قصص لم تروَ، وأخرى لا تملّ من تكرارها على السامعين. خطوط وجهها العريضة تحكي ألف حكاية وذكرى. خانتها حاسة السمع منذ سنوات، ومع ذلك تواصل حكاياتها كأنها تُعيد شريط حياتها بصوتها.

بعباءتها السوداء وتجاعيدها، التي توثق سنوات عمرها الطويل، تروي الحاجة سعديّة محطات حياتها بشكل متقطع وغير مترابط، فتتداخل الأحداث في ذاكرتها كما في أحاديثها. ولكن متعة الاستماع إليها تجعلك تنسى هذه التفاصيل. تعود بك إلى الاستعمار الفرنسي والإنكليزي كما تُسميه، عندما كانوا يقتحمون المنازل بحثاً عن الثوار، فيُفسدون المونة المخزّنة، ويكسرون الجرار، ويسلبون كلّ ما كان فيها من دبس وقمح وطحين وتين مُجًّفف وزبيب. تتذكر صوت “الهيلكوبتر” الذي كان يهدر فوقهم لتزويدهم الطعام، وكيف كان الثوار يهربون إلى الجرود حيث يختبئون بين الأشجار هرباً من المستعمرين.

قد تخونها التفاصيل والتواريخ، ولكنها لا تزال تتذكر بعض المحطات العريضة للأحداث التاريخية التي كانت شاهدة عليها. تبتسم عندما تتحدث عن الحصاد والحطب وجمع الغلال على البيادر والمعصرة، هي التي أمضت سنواتٍ طوال تعمل في الأرض من دون كلل أو تعب. كانت تحب حياة الطبيعة، ونسجت أيامها على وقع فصولها وحصادها. سنواتها تُشبه المحصول والأرض، “بيعطي شوي وبيرتاح شوي”، لكنها لم تنجُ من ألم الفقدان، إذ تساقط أولادها الخمسة تباعاً كأوراق الأشجار، خطفهم المرض واحداً تلو الآخر. تُعريها الأحزان قبل أن تزهر من جديد، برسم ضحكة على شفتيها المثقلة بالأحمال.

لم يكن سهلاً على الحاجة سعديّة أن تدفن أولادها بيديها، كانت تودعهم واحداً تلو الآخر، وكان آخرهم ابنها الذي توفي في مرض السرطان. بين الماضي والحاضر، عاشت عمراً من الألم والفرح، من الخيبات والانتصارات الصغيرة، من الأيام الحلوة والمرّة، ومن الصحة التي ما زالت تتمع بها رغم تقدمها في السن.

 

تتذكر قصة فتبتسم، تقول: “على ايامنا ما كان في لا سيارات ولا تلفزيون. كنا عايشين على البركة بس مبسوطين. كان اهلنا فقراء، وكانت الحياة غير هلق”، تعود بها الذكريات إلى ماضيها، تتذكر  كيف “تعلمت الحصيدة، وكيف نجيب الزرع على البيدر، تعلمت الأغاني. تعلمت كتير”.

تزوجت الحاجة في سن الخامسة عشرة، لم تسنح لها الفرصة للتعلّم. أنجبت “أم محمود” كما ينادونها 10 أبناء، ثلاث بنات وسبعة صبيان. اليوم كبرت الحاجة سعديّة وكبرت عائلتها أكثر فأكثر لتضم نحو 155 حفيداً وابن حفيد، تنظر إليهم بإمتنان وحب، هي الشاهدة على الأفراح والأتراح في تاريخ عائلتها، تجلس معهم اليوم وتُشبع عينيها بكل واحد منهم. ولأن القدر ابتسم لها، تسمع من حفيدتها التي أنجبت حفيداً وهي تقول لها: “يا ستي شوفي ستك”.

 

تتكىء على عكازها وتمشي، لاتزال الحاجة سعديّة تتمتع بصحة جيدة، لا تشكو  الضغط ولا نقص الأوكسجين، وتأكل كل ما يحلو لها. متمسكة بكل التقاليد والعادات القديمة، هكذا تربت وهكذا ربّت، وتشدد في حديثها على أن “أهم شي أن تكون المرأة فهمانة وبنت حلال وآدمية و”مرابية” (ذات تربية)، وفصيحة. ما في ولا امرأة ما عم تتعلم بإيامنا هلق”.

قد ترغب الحاجة في الاحتفاظ ببعض القصص لنفسها، فهناك حكايات تبقى أجمل لو بقيت محفوظة. لكنها لا تخفي أنها كانت “حلوة كتير كتير، وكل الرجال يطلعوا علييِّ بس أمرق. كنت حلوة بلا شي”. لكنها لا تدرك أنها لا تزال جميلة، بكل تفاصيلها وتجاعيدها وابتسامتها وبركتها التي تحلّ أينما كانت. صوتها وحضورها كفيلان بتذكيرنا بأن “الحياة جميلة لو شو ما صار”، وبأن الاحتفال بيوم المرأة هو احتفال بنضالها ومسيرتها المتواضعة التي تشبه حكايا لبنان القديمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى