النبطية بعد الدمار: مدينة تصارع الركام وتنتظر الإعمار

المدن – غادة حلاوي
مضى ثلاثة أشهر ونصف على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وما زالت آثار الدمار شاهداً على معاناة مدينة النبطية. الركام في كل مكان، وجرى تجميعه أكواماً لفتح الطرق. من مفرق بلدة كفررمان وصولاً إلى النبطية طال العدوان كل العمران. تقع العين على بضعة مبانٍ فقط سلُمت من الدمار الكلي. كل ملامح المدينة تغيرت ولا يقتصر الأمر على العمران فحسب، بل حتى على السكان بوجوههم المكفهرة. “لكأن “تسونامي” ضرب المدينة” كما يقول أمين سر جمعية التجار كامل صبّاح واصفاً حجم الدمار.
دمار كبير حل عليها
يتسكع سكان المدينة في الأحياء، منهم من يشتري وآخر يبيع، وآخر يكنس زجاج متجره المحطم. حتى اليوم، لم تتولَ الجهات الرسمية المعنية المهمة؛ فلجأ الأهالي إلى تدبر أمرهم بعدما ملّوا الانتظار. يقول مختار حي البياض حسن نزار جابر عن عدم إزالة الردم لـ”المدن”: “لا يوجد تمويل من أي جهة معنية للبدء في إزالة الردم. وبدورنا علينا الانتظار”.
كل زاوية من المدينة تحمل ذكرى للقاطنين. عند شارع النجمة الشرقية، يستذكر أبو حسن متجر ألعاب أطفاله، وفي الجهة المقابلة له متجرٌ آخر للثياب، تحولا إلى حطام. مشاهد الدمار كبيرة. وفي المشاهدات العينية يبدو واضحاً أن عدد المؤسسات التجارية المدمرة يفوق بأشواط عدد البيوت. وهذا ما يفسر عودة غالبية قاطني المدينة إلى منازلهم، كما أكد المختار جابر. لكنهم، إضافة إلى معاناة النزوح يختبرون معاناة من نوع آخر، تتمثل بالتعايش مع الركام والغبار، التي تتطاير بالأرجاء كلما هبّت نسمات آذار.
المباني التي كانت تمثل ملامح الحياة اليومية تحولت إلى أطلال خاوية، والشوارع تعج بالسكان الذين يتنقلون بين الركام. ويقول أمين سر جمعية التجار صبّاح: “كنا نعيش بسلام ووئام. الآن أصبح أهل النبطية غارقين في الردم”.
التعويضات غير كافية
عاد سكان المدينة لكنهم ينتظرون إعادة الإعمار. الذين تعرّضت منازلهم لأضرار جزئية حصلوا على تعويضات من حزب الله للترميم. أما العائلات التي تدمرت بيوتها كلياً فحصلت على بدل إيواء لمدة سنة وثمن أثاث بمعدل 12 ألف دولار. وتعيش هذه العائلات في حيرة من أمرها بين أن تدفع بدل الإيواء وأن تؤمن اللوازم الأساسية من مأكل ومشرب وفرش المنزل بالأثاث. يتحدث علي زرقط عن معاناته بعد خسارة مصدر رزقه، أي سيارة الأجرة وعربة “توك توك”، إلى جانب خسارة منزله: “قدموا لي بدل إيواء لمدة سنة بقيمة 8 الآف دولار، ووعد بإعادة إعمار بيوتنا. لكن مضى ثلاثة أشهر من السنة ولم يتم حتى جرف أو إزالة الردم”.
أما على مستوى أصحاب المؤسسات التجارية فالأمر مختلف تماماً. ومن المعروف أن السوق التجاري هو قلب المدينة الذي طاله الدمار العنيف. وفي انتظار انشاء سوق تجاري مؤقت، يحاول التجار تدبر أمرهم بنفسهم. فواقع الحال اليوم أن من يملكون متاجر بديلة في البلدات المجاورة نقلوا أعمالهم إليها، من ليس لديه أي بديل تعثرت سبل عيشه. فإلى الآن، لم تخصص تعويضات لمن خسروا متاجرهم بشكل كلّي، وهم ينتظرون من يلتفت إليهم. يقول رفعت حطيط: “ليس لدي إمكانيات مادية لاستئجار متجر بديل، ولا نعرف لمن نوجه نداء المساعدة، هل للأحزاب أم للدولة”. بعد 41 عامًا من بناء اسمٍ له في سوق النبطية، يعيش حطيط وغيره من التجار حالة من الضياع بانتظار معرفة مصير إعادة الإعمار. فالمؤسسات التجارية التي دمرت بشكل جزئي تم تعويضها بحسب مقدار الدمار، على عكس المؤسسات التي دمرت بالكامل.
الصمود ومحاولة النهوض من جديد
الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على مناطق الجنوب فرضت واقعاً جديداً على السكان. بات بعضهم يخشى الخروج للتسوق، ما ينعكس تراجعاً بالحركة التجارية. ويقول صاحب متجر البقالة: “الوضع الاقتصادي في الشهر الأول بعد العودة إلى المدينة قاسٍ جدًا. أما الآن فالوضع الأمني يتحكم بحركة التجارة. يتحسّن أو يتدهور وضعنا الاقتصادي على وقع الاعتداءات الإسرائيلية”.
لكن في مقابل هذا الواقع المرير ثمة إصرار من أهالي المنطقة على الصمود. ففي سوق الخضار، الذي يُجسِّد تاريخاً عريقاً يعود لأكثر من قرن، حضرت سيدة من بلدة كفرتبنيت للتبضّع. وتقول: “جئت من بلدتي للتسوق مما تبقى من السوق التجاري”. وتضيف بلكنتها الجنوبية: “وإذا تجددت الغارات، معش روح على محل”.
هذا الإصرار على الصمود يعكسه رأي أحد بائعي الحلويات. في شارع قديم في حي السراي، الذي يعدّ النواة الأساسية لمدينة النبطية، وسُمّي بهذا الاسم نسبةً إلى السرايا العثمانية القديمة. يقف البائع الشاب مرتدياً مريولاً أبيضاً وهو يقلّب “القطايف” ويقول بلغة التحدي: “أعدنا افتتاح المتجر في أول أسبوع من إعلان وقف إطلاق النار، ولم يردعنا العدوان من متابعة عملنا”،
قصص صمود أهالي النبطية ليست جديدة عليهم. فمع بداية العدوان لم تخرج العائلات من النبطية دفعة واحدة. ففي الشهر الأول من العدوان بقيت 600 عائلة في النبطية. ومع اشتداد الضربات انخفض العدد إلى 150 عائلة. والأمر ليس بجديد فقد صمد أهل النبطية في المدينة، العام 1974 أمام الاعتداءات الإسرائيلية، مرورًا باجتياح آذار 1978، واجتياح حزيران 1982، ثم حرب الأيام السبعة في تموز 1993، وحرب عناقيد الغضب في نيسان 1996، وحرب تموز 2006، وصولاً إلى العدوان الأخير. ويترجَم هذا الصمود المختار جابر، الذي بقي في النبطية لمدة 63 يومًا يمارس عمله كمُسعف وموارٍ للثرى في لجنة المواساة التابعة للنادي الحسيني. ويقول جابر: “واريت الثرى في لجنة المواساة 142 شهيدًا، وانتشلت 20 شهيدًا، وأسعفت 55 جريحًا. كانت تجربة مريرة، لكن إذا تكررت، سأعيد الكرّة بالبقاء والصمود”.