لبنانيات
كرنڤال الإنتخابات البلدية، وأزمة المجتمع المدني في المساهمة في مسألة بناء الدولة.

الدكتور علي العزي
في لبنان، نحن بأمسِّ الحاجة للتغيير الديمقراطي والإصلاح الشامل، كي نعيد بناء بلدنا على الشكل الذي نحلم به كي يُشابه أفضل بلاد العالم، وبالتالي كي نُحسّن مستوى العيش والحياة فيه. تبدأ فكرة الوطن من أرحام أمهاتنا، لتصل إلى مدينة كلِّ فردٍ منّا. إذن مدينتنا هي وطننا الأصغر. فالوطن هو تجمّع هذه المدن تحت حكم منظومة يجب أن تكون شرعية. وهذه الشرعية يجب أن تكون مستمدَّة من قبل الشعب، وتكون الشرعية صالحة، عندما يكون قرار الشعب مستمدًّا من الشعور بحرية الإختيار دون خوف على مصالحه أو تقيّة.
بكل الأحوال إن أي منظومة حاكمة، مهما كانت طبيعة شرعيتها، هي المسؤولة عن إدارة البلد ومحافظاته ومدنه، وعلى تأمين سبل الحياة الطبيعية والكريمة للمواطنين. والمؤسف، أن الإستحقاقات الوطنية، واليوم الإنتخابات البلدية، تأتي في ظروف غير ملائمة لمصلحة الشعب، وهو يرزخ تحت عبئ الدمار والخراب التي أنتجتهما الحرب الأخيرة، وما يترتّب على ذلك من تأثيرات مختلفة الأسباب تضر في مسألة الإختيار الحر. والمؤسف أيضاً، أن مدننا، ومنذ ما قبل الحرب الأخيرة بعقود ثلاث، تقع في واقع إنمائي مذري، وهذا أقل توصيف يمكن أن يقال فيه.
والحياة في أكثر مدن وقرى لبنان، تسير على قاعدة الصدفة، حتى لا نقول الإرادة الإلهية، تعبثُ الفوضى العارمة في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها الإدارية والإقتصادية والخدماتية والبيئية والبلدية. السؤال: لماذا نحن في هذا القعر من الفوضى والإنهيار؟ من هو المسؤول عن هذا الوضع المُذري؟ الجواب سيكون بسؤال: من يحكم هذه المؤسّسات، هذه المُدن، هذه الدولة، هذا الوطن ؟؟؟ خمسة وثلاثون عاماً، وما زلنا حتى الآن تحت حكم سلطة <الترويكا> رغم أن عوامل بقائها قد انتهت. حكم الترويكا هو الذي أنتجَ دولة الفساد والتجهيل وما أعقبها من مجتمعات الفقر والحرمان؛ وربما سنحتاج إلى زمن ليس بقليل لو ابتدأنا اليوم بإصلاح ما دمّرته هذه المنظومة.
هذه السلطة الفاسدة، تعيد إنتاج نفسها مع كل استحقاق وطني، وهي التي تجعل من مؤسّسات الدولة رهينةً لأحزابها ومصالحها الخاصة، التي تتعارض مع مصالح الوطن الفعلية ومصلحة المواطن اللبناني. وعلى مدى عقود من الزمن والحكم، أثبتت هذه السلطة أنها لا تملك رؤية لبناء أي دولة عادلة أو صالحة، ولا تملك أيَّ رغبة في البناء، وقد لمسنا ذلك منذ عشرات السنين. هذه السلطة – بما كانت عليه وما هي عليه، نرجسية، تستبد وتحكم براحة بال رغم عجزها الواضح. من هنا ولذلك أصبحت حياتُنا هكذا، في هذا الجحيم، بكل ما فيه من عُقم وفوضى وزبائنيّة ومافيات؛ حتى أصبحنا بعيدين كل البعد عن أي حلم يمكن أن نحلم به كي نتشارك مع العالم في بناء الحضارة؛ حضارة العلوم والثقافة الفعلية والتكنولوجيا، ناهيك عن حلم الصناعة والزراعة والسياحة وبناء الإنسان.
أعلمُ وأرى وأسمع، أن مدننا وقُرانا تحتاج الكثير من العمل الدؤوب كي تصبح أجمل وأرقى، أو أقلَّه لتصبح أكثر ملائمةً للحياة الأفضل. لكني أعلم وأرى أن مجتمعاتنا أصبحت أبعد فكرياً وثقافياً عن المستوى المطلوب للنهوض والتغيير، وهنا الطّامة الكُبرى. من أوصلنا إلى هذا الدَرك من الإهمال والتجاهل وقلّة الحَيل والتشاؤم؟ يجب أن نُحدِّق فقط كي نرى ونعلم؛ وأغلبنا يُحدّق ويعلم ويرى، لكنّنا صامتون، خائفون أو أنانيّون.
أين نحن من هذه العناوين؟ أين نحن من صناعة الامل بالمستقبل، للحصول على أوطان سليمة ودولة قوية وعادلة؟ كيف علينا أن نشارك في صنع التغيير؟ في تأسيس حركة إجتماعية وثقافية قتدرة على صناعة التغيير الإبجابي؟ من أوصل مجتمعاتنا أن تكون أبعد فكرياً وثقافياً عن المستوى المطلوب للنهوض والتغيير؟
من أوصل عقولنا إلى مستوى الإهمال والتجاهل والتشاؤم وعدم القدرة والرغبة في النضال من أجل تحقيق أحلامنا ومن أجل حياة أجمل وأرقى، وأن تكون مدننا وقرانا ووطننا مكاناً للآمان النفسي والروحي والمعيشي؟ الجواب: كما ذكرت أعلاه في القسم الأول من المقال، هي هذه السلطة بكل أحزابها: < كلن يعني كلّن>.
أين نحن من صناعة الامل بالمستقبل، للحصول على أوطان سليمة ودولة قوية وعادلة؟ كيف علينا أن نشارك في صنع التغيير؟ هل نحن عاجزون فعلاً على تأسيس حركة إجتماعية وثقافية لصناعة التغيير؟ أحد المواقف المحزنة، أن أغلبنا في مكان ما، يهتم في استجداء المناصب والإحترام من نفس هذه السلطة.
بل حتى المثقف الذي يقع على عاتقه الدور الأكبر في عملية التغيير هو نفسه، يستجدي الإعتراف بثقافته ومستواه الثقاف، بل ويستجدي لقمة عيشه، من مسؤولي هذه السلطة الذين ساهموا مع زعمائهم في الوصول إلى ما هو ونحن فيه. المشكلة ليست فقط في مستوى فهمنا ومعرفتنا ووعينا، رغم أنه من المُلِح إعادة تحفيز الفهم الحقيقي والمعرفة الشاملة والكاملة.
ربما أحد أسباب المشكلة تقع في مبدأ الإخلاص الوطني، أقصد في فهمنا الصحيح لمسألة < المواطنة > ومسؤوليتنا الأخلاقية والإنسانية كمواطنين حريصين على وطننا – وطن أبنائنا وأحفادنا. تعالوا نقرأ عن مفهوم المواطنة الصالحة، والمواطن الصالح، عن كيف تتم حركة التغيير والبناء. أما السبب الآخر، وربما هو الأول، كما ذكرنا أعلاه، يقع في جبروت هذه “المنظومة” التي اتحكم البلد منذ أكثر من ثلاثة عقود، بكل عنجهية واستبداد ونرجسية.
نحن اليوم، وللمرة الألف، نسلك طريق الاستخفاف بالاستحقاقات، نعيش الوهم وعدم رؤية الواقع المأزوم وحقيقته. نغرق بالاستعراضات والمصالح الذاتية التافهة والمؤقّتة. نبتعد عن مسؤولياتنا الأخلاقية والوطنية لمصلحة نفس السلطة، نفس المتسلّطين، نفس المسبّبين لكل ما نحن فيه اليوم منذ عقود.
فطالما نحنُ كذلك، طالما هذا الواقع المُزري سيستمر.. لا يمكن لرئيس جمهورية جديد، محدود الصلاحيات، مهما كانت إرادته ونواياه سليمة، ولا إلى رئيس حكومة جديد أن ينفّد ما يحلم به، وحكومته بآيادي وزراء ينتمون لنفس المنظومة التي خرّبت الدولة وجعلت البلاد والعباد في أزمة إقتصادية ومالية وإدارية من أعمق وأسوأ الأزمات على مستوى العالم.
كيف السبيل إذن للخروج من هذا المستنقع العميق، الملوّث بأكثر الفيروسات الأخلاقية والبكتيريا السياسية فتكاً وضرراً على حياة الناس، على الحياة في كل لبنان؟ أريد أن أؤكد لكم الآن، أني أعرف ماهية الأزمة وأعرف تشخيص أسبابها، لكني لا أدّعي معرفة العلاج بشكل علمي وكامل. وهذا الأمر يحتاج للبحث الحقيقي والشامل، ويحتاج لعقول وخبرات مختصّة ومشاورات مع هذه العقول – أصحاب الخبرات. ولا يجب فقط الإكتفاء بالكلام. وأعلم أيضاً، أن مؤيّدي الأحزاب الحالية يقفون في وجه التغيير ويعملون ضده، والسبب معروف، إمّا لأنهم مستفيدين وإما أنهم جاهلون، وطبعاً يوجد بينهم من يرى الحياة هكذا -وردية لا تشكو من سقم.
ومع هذا، أعلم أن مسؤوليتي الأخلاقية والوطنية أن أكتب وأحرّض وأن أحاول أن استكشف بعض الافكار التي تصلنا إلى الحلول الممكنة كي نبدأ في مشروع التغيير. رغم صعوبة البداية وكيف تكون. هل من الأعلى إلى الأدنى أو العكس؟ المطلوب والمّلِح اليوم أولاً، إعادة تشكيل أسس التغيير الوطني، الذي بجب أن يبدأ في إعادة تشكيل <الوعي> من أجل مقاربة جديدة لمسألة بناء الدولة التي تبدأ في تغيير أسس <المعرفة> وطريقة مساهمتنا في هذا البناء. ومساهمتنا الأقرب اليوم هو تعاطينا مع الاستحقاق الأقرب زمنياً أمامنا ألا وهو استحقاق الإنتخابات البلدية. أعلم أيضاً أن هذا الإستحقاق يحتاج لنظام إنتخابي أكثر ديموقراطية.
اليوم، نواجه الإستحقاق البلدي في ظل نفس السلطة ونفس أحزابها، التي تتحكم في مجريات الأمور والتي ستأتي بأطقمها على نفس الطريقة السابقة، وربما اليوم ستحاول الالتفاف على الإنتخابات في أغلب الأماكن ببدعة التزكية. إذن، ماذا ننتظر من نتائج؟ هل ستغيّر هذه الأحزاب مقاربتها للعمل البلدي بعد ان اعتادت على نمط واحد منذ عقود؟ هل يمكن لفرد واحد لو تسنّى له اختراق لوائح السلطة أن يستطيع أن يؤثر في عمل هذه المنظومة؟ الجواب عندكم.
كيف إذن أن نراهن على التغيير، طالما سنشارك في لوائح هذه المنظومة، بل في هذه الكرنڤالات التي لا تصلح إلّا في دبكة الهوّارة لعاصي الحلّاني وطوني حدشيتي؟ هل نحن قادرون أن نؤسس لوائح معارضة كاملة تضم كفاءات خبيرة في إدارة البلاد، تقدّم برنامج إنقلابي كفوء، قادر ولو بنفس الموازنات المالية الحالية على تحسين الواقع؟
نعم قادرون. إذن ما هو المطلوب؟ الجواب: الجرأة على المواجهة الثقافية، وتجميع القدرات، محمّلين بالإخلاص للوطن والمدينة والرغبة في العمل والعطاء.. وهذا حديث يجب أن يُستكمل. لكن علينا أن لا نفوّت المناسبة اليوم. لكن، إن لم تتأمن هذه الإمكانية، علينا أن لا نساهم في إضفاء الشرعية لهذه الكرنڤالات.. فهي مضيعة للوقت وهدر لفرصة الإعتراض