“المحرّض الثقافي” الذي خذلته السياسة.. حبيب صادق عاد إلى تراب الجنوب
عاد حبيب صادق إلى النبطيّة، ليرقد جثمانه في روضة الصالحين، لكن مسيرته البهية، ستبقى تهدي العابرين على الدرب الموحشة والمظلمة والوعرة التي قلّ سالكوها.
غيّب الموت المثقف والسياسي اللبناني حبيب صادق بعد معاناة مع المرض. حبيب صادق (1939 ــ 2023) قامة فكرية وسياسية وثقافية وأخلاقية، فريدة في لبنان والعالم العربي. ابن العلّامة والأديب عبد الحسين صادق، والنائب السابق، ورئيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» ومرشده وروحه، خاض كل المعارك الوطنية والاجتماعية والثقافية، وكان رمزاً من رموز الحركة التقدمية اللبنانية المقاومة! وأدار طوال عقود منبراً للتفكير والاجتهاد والنقاش، وإطلاق الأفكار المجددة، وأشرف على نشر عدد لا يحصى من المؤلفات الأدبية والفكرية والأنطولوجية والمخطوطات النادرة والمراجع التوثيقية مثل «دليل جنوب لبنان كتاباً» (الطبعة الأحدث 2010). منذ السبعينيات، وعبوراً بسنوات الحرب الأهليّة، بقي «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، محطة أساسية في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية، وقبلة المثقفين بندواته وأمسياته. يمكن أن نذكر عينة بسيطة من الأسماء التي عبرت من هنا: من محمود درويش إلى رضوى عاشور، من عبد الوهاب البياتي وعبد المعطي حجازي، إلى الطيب تيزيني ولطيفة الزيات وفتحيّة العسال، مروراً بممدوح عدوان وعلي الجندي… والقائمة تطول.
حتى أيّامه الأخيرة، قبل أن يقعده المرض، كان حبيب صادق دائم الحضور في المجلس. كان حاضراً، على الموعد، في كل الحقبات والعهود، يستقبل الجمهور ويتفاعل مع الضيوف. يقف بقامته الأنيقة، وهدوئه المعهود، وابتسامته العارفة، مجسداً تاريخاً خصباً، ومشروعاً سياسياً وفكرياً لجيل كامل، حلم بوطن آخر في لبنان، بدولة عادلة لكل أبنائها، وناضل ضد الاستغلال والطائفية، ودعا إلى مواجهة الخطر المصيري والوجودي الذي يجسده الكيان الإسرائيلي. بقي هذا «المحرّض الثقافي» كما لقّبه الكاتب والناقد الراحل محمد دكروب، يستقبل بنفسه جمهور الندوات والأمسيات، بتواضع القائد الذي خرج من بيت عريق في الدين والعلم والأدب والمعرفة، منخرطاً في العمل الشعبي والنضالي. بقي صادق يشرف على البرمجة والنشاطات، ويمدّ جسور الحوار مع مؤسّسات وجمعيات وقوى وأفراد، ويحمي برمش العين هذا المختبر الفكري، وهذا المنبر المكرّس للحوار والتلاقي وبث الوعي. هو الذي لم يؤمن بالحدود بين الثقافة والسياسة، فكان السياسي المثقف، والمثقف المسيس، وكان يفهم الثقافة طريقاً للتقدم والعدالة والوعي والتغيير.
يروي حبيب صادق تجربته الشخصية التي يتقاطع عندها العام والخاص، في كتاب «حوار الأيام» («دار الفارابي»، 2015). من طفولته في بلدة الخيام الجنوبية، وترعرعه في النبطية، وتأثره بوالده الشيخ عبد الحسين صادق رغم رحيله المبكر (أعاد صادق جمع بعض مؤلفات والده وتدقيقها ونشرها، مثل «عرف الولاء» 2005، و«سقط المتاع» 2007. ثم مرحلة بيروت حيث عمل في التدريس بداية، وتوطّدت علاقته بكتّاب ومثقفين مثل محمد دكروب وعبد اللطيف شرارة وسلام الراسي، كما تقرّب من العلّامة عبد الله العلايلي الذي ترك بصماته على وعيه وثقافته. ولم يكن يفوّت أي موعد في «الندوة اللبنانية» و«النادي الثقافي العربي» و «المركز الثقافي السوفياتي»، بؤر الحركة الفكرية والثقافية آنذاك… إلى أن انطلقت مغامرة «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» التي ستلازمه إلى آخر أيامه. بدأت التجربة عام 1964 على يد ثلّة من مثقفي الجنوب اللبناني وكتّابه، بينهم الشهيد حسين مروّة وبولس سلامة وجورج جرداق… وانتسب صادق إلى المجلس منذ انطلاقته، مسكوناً بهاجس خلق ثقافة وطنية وديمقراطية في مواجهة «البكوات»، أي الزعامات التقليدية الإقطاعية التي تمسك بحياة الجنوبيين ووعيهم ومصيرهم. فهو كان يفهم دور المثقف في المعترك وليس «على موائد السلطان» حسب عنوان مقالة شهيرة من مقالاته.
حبيب صادق القريب من الحركات والقوى السياسية التقدمية آنذاك، خاض تجربة العمل السياسي المباشر الذي لم يحتفظ منه إلا بطعم الخيبة والمرارة. ويحمل كتابه «في وادي الوطن ـ مقاربات في شؤون لبنان وشجونه» («دار الفارابي»، 2010) بصمات وندوب تلك المرحلة الحاسمة من حياته. ولعلّ هذا الكتاب يبدو اليوم مرجعاً أساسياً يجب العودة إليه لاستعادة تلك المرحلة (1995 ـ 2005)، بما يتضمّنه من وثائق ونقاشات وشهادات مرتبطة بعقد التحوّلات الحاسم، ولما يسلّطه من إضاءات على مسيرة فكريّة ونضاليّة خصبة، زاوج صاحبها على الدوام بين الثقافي والسياسي. إنّها دفاتر رحلته «الشاقة وغير المجزية» كما كان يردد بمرارة، رحلة لم تنقصها الشجاعة والخصوبة والفرادة. ترشّح حبيب صادق إلى الانتخابات النيابية عامي 1968 ثم 1972، لكنّه لم يدخل الندوة البرلمانيّة إلا العام 1992 على لائحة «التنمية والتحرير»، وما لبث أن انسحب من الكتلة ليصبح نائباً مستقلاً. وبعد انتخابات 2005، خرج مؤسس «المنبر الديمقراطي» من المعمعة السياسيّة، محملاً بالخيبة من المنظومة الإقطاعية الطائفية وقوانينها، ليكرّس كل نشاطه لـ «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي». صار المقر الشهير، في حي المزرعة البيروتي، هو الملاذ والمقر.
ترك الراحل مؤلفات فكرية وثقافية مرجعية، ورافق صدور مجموعة مرجعيّة من الكتب والأبحاث عن “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي”. حقق المجلس ونشر بإشرافه عشرات المخطوطات التي تعود إلى القرن التاسع عشر في جبل عامل، منها مخطوطات للشيخ علي السبيتي. كما نشر رواية «حسن العواقب» لزينب فواز (1846 ــ 1914) التي طرحت قضيّة حقوق المرأة عقوداً عدّة قبل الرائد النهضوي المصري قاسم أمين. وأرّخ صادق لـ «وجوه مضيئة» من رموز الثقافة الجنوبية والفكر الجنوبي مثل حسين مروة ومهدي عامل وغيرهما… أما الأنطولوجيا التي أصدرها المجلس أواخر السبعينيات، في إثر أمسية شعرية شهيرة في كليّة الحقوق، وضمّت قصائد نخبة من شعراء الجنوب اللبناني، فإن عنوانها يبقى، بعد كل هذه السنوات والتحولات، هو عنوان المرحلة «وكلّ الجهات الجنوب»… جنوب حبيب صادق، أرض المواجهة الحقيقية مع عدوّنا المصيري، اليوم أكثر من أي وقت مضى. هو هذا المثقف الرؤيوي الذي ترك بصماته على الراهن والمستقبل.
عاد حبيب صادق إلى النبطيّة، ليرقد جثمانه في روضة الصالحين، فإذا بآخر هياكل تلك المرحلة الخصبة، يفقد حارسه الأمين. لكن مسيرته البهية، ستبقى تهدي العابرين على الدرب الموحشة والمظلمة والوعرة التي قلّ سالكوها…
الميادين – بيار ابي صعب