في لبنان : حتى مراسم الدفن والتعازي… صارت ‘من الحواضر’
كسرت الأزمة الإقتصادية والمعيشية الكثير من العادات والتقاليد في أسلوب معيشة اللبنانيين، ولم تقتصر على يوميات الحياة، بل طاولت الموتى بعدما لاحقتهم الضائقة المالية إلى مستقرّهم الأخير، مع إرتفاع كلفة مراسم الدفن لجهة ثمن المدافن والكفن، أو لجهة تقاليد تقبّل التعازي، وقد بات بعضها في الجبّانة أو المنازل أو عبر الهاتف بدلاً من القاعات.
في صيدا جبّانتان، القديمة في منطقة «الشاكرية» وقد توقّف الدفن فيها منذ ثلاثة عقود، والجديدة في منطقة «سيروب»، وقد وهبها الرئيس الشهيد رفيق الحريري للأوقاف الاسلامية صدقة جارية، ورغم إمتلاء الجبّانة الجديدة، الإ أن ثمن المقبرة لم يتغيّر وبقي على حاله ومن دون أي تفرقة أو تمييز، وتشتهر المدينة بـ3 قاعات لتقبّل التعازي، قاعة «الموصللي» في التعمير وهي الأكثر شعبية واستخداماً، قاعة الزعتري وقاعة مسجد الحاج بهاء الدين الحريري.
ومنذ بداية الأزمة، تخلّى المواطنون عن الكثير من طقوس الدفن وعادات التعازي (باتت للمقتدرين فقط)، وأصبحت بعض العائلات تنوء بحمل التكاليف، إذ يكلّف الدفن مع الكفن وكل مستلزماته (المدفن الجديد أو إعادة حفر القديم وغسل الميت والنقل والحجارة والشاهد) قرابة أربعة ملايين ومئتي ألف ليرة لبنانية. لكنّها حافظت على المراسم وإختصرت بعض التقاليد، لجهة تقبّل التعازي في المنازل بدلاً من القاعات بعدما بدأ بعضها فرض رسوم لإستيفاء بدل تشغيل المولد الخاص لتأمين الكهرباء أو تشغيل أجهزة التكييف: التبريد صيفاً والتدفئة شتاءً، أو صيانتها دورياً.
ولا تتوقّف أسباب الإختصار عند هذا الحدّ، بل تتعدّاه إلى توفير مصاريف تقديم القهوة السادة مع التمر والمياه وهبة القرآن أو كتيب الدعاء أو المعمول بأنواعه أو إقامة غداء من مناسف اللحم والدجاج أو اللحم بعجين عن روح المتوفّى في اليوم الثالث.
ويروي كبار السنّ لـ»نداء الوطن»، أنّه «في السابق، وقبل الأزمة الإقتصادية المستجدة، كانت القاعات تفتح مجّاناً لخدمة الناس، فمن بناها وضعها تقرّباً إلى الله وصدقة جارية عن روح أمواته. وكان أهل المتوفّى يدفعون فقط إكرامية لمن يخدم المعزّين ويقدّم الضيافة وينظّف القاعة، بينما أصبحت اليوم برسوم تختلف بين قاعة وأخرى وتتراوح من 100 إلى 300 دولار أميركي خلال ثلاثة أيام تعزية».
ويوضح هؤلاء أنّ أهل المتوفّى الذين لا قدرة لهم على تحمّل نفقات الدفن، كانت بلدية صيدا (فترة السبعينات) تتولّى التكاليف، إضافة إلى «لجنة مقبرة صيدا» التابعة لدار الأوقاف الإسلامية، فضلاً عن بعض المحسنين، ومع جائحة «كورونا» خلال السنتين الماضيتين وفرضها أسلوباً جديداً بتقبّل التعازي عبر الهاتف أو مواقع التواصل الاجتماعي، تماشى ذوو الدخل المحدود مع هذه الحال هرباً من مصاريف التعزية، لا سيّما إذا كان المتوفّى قد لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى جرّاء مرض عضال أو دخل في غيبوبة، مع ما يتطلّبه ذلك من مصاريف جمّة.
وتقول مريم التي ماتت والدتها وليس لها معيل الإ الله، «لا نملك ثمناً لحفر القبر ولوازم الدفن، فتبرّع أحد أقاربنا بالمال ودفنت أمي إلى مثواها الأخير، بينما اقتصرت التعزية عبر الهاتف»، داعية إلى الإهتمام بالعائلات المتعفّفة بموتاها «ففي شريعتنا إكرام الميت دفنه لا التفرّج عليه».
ولم تخف الحاجة «أم مصطفى» المصري، انها أودعت لدى ولدها الوحيد ألف دولار أميركي قبل الازمة، ليدفع نفقات مراسم دفنها وتقبّل التعازي بعد موتها، وقالت: «فعلت ذلك لأنّني أعرف أن وضعه المادي تحت خط الفقر»، قبل أن تضيف «والدتي فعلت هذا واشترت كفنها قبل موتها… والأعمار بيد الله».
ويقول إمام وخطيب مسجد الغفران (الكائن في جبانة صيدا) الشيخ حسام العيلاني لـ»نداء الوطن»: «إنّ الأزمة إنعكست سلباً على أهل المتوفّى لجهة الإقتصاد في المصاريف وتكاليف الدفن، مثال على ذلك البعض بات يلجأ إلى تقبّل التعازي في منزله بدلاً من القاعات أو اللجوء إلى القاعات الأقلّ كلفة».
وأضاف: «إنّ دائرة الأوقاف الإسلامية في صيدا ومن خلال لجنة المقبرة تساهم في تغطية تكاليف الدفن حسب الوضع المادي لأهل المتوفّى، ولكن يبقى المطلوب من الدولة عدم التقاعس والعمل على تحمّل مسؤوليتها وتأمين فرص عمل وتصحيح الأجور».
بالمقابل، تراجعت عادة القيام بالواجب تجاه أهل المتوفّى بسبب كلفة التنقّل والبنزين، أو عدم قدرة الأقارب والأصدقاء والجيران على ترك أعمالهم والوقوف إلى جانبهم، بعدما كانوا يشاركون في واجب العزاء ومراسم الدفن حتى لو كانوا من مناطق بعيدة عن أماكن سكنهم بسبب سعيهم إلى تأمين قوت اليوم، وقد ساهم إنتشار «كورونا» بتعميم الإكتفاء بتقديم واجب العزاء عبر الاتصال الهاتفي فقط.