أخبار النبطية

تحيّة دائمة إلى الفنان الراحل علي بدر الدين «ديك» الخطّاطين في ذكرى رحيله

في الثلاثين من نيسان 2023، كانت الذكرى الثالثة لرحيل الفنّان «النبطاني» العالمي علي بدر الدين، عن 69 عاماً، أمضى مجملها متنقّلاً بين الخطوط وجداريّاتها، واللوحات التشكيليّة، وبين كرة القدم وهواية الصيد، ولشدة تعلّقه في مسقط رأسه النبطية، تخلّى عن الشهرة التي كان يمكنها أن تجعله في مصاف الفنانين الكبار وأغنى أغنياء النبطية، لكن «من الحبّ ما قتل».
برغم قسوة رحيله ليلة الأوّل من أيّار 2020 بيد أنّه ترك مجموعة قيّمة من اللوحات الجداريّة من فنون الخطّ الفارسيّ والديوانيّ والثلث، تتجاوز أربعين لوحة، ناهيك عن مجموعة قليلة من اللوحات التشكيليّة.
وتحية إلى موهبة علي بدر الدين «الديك» وأبداعه وعصاميته، وأهمّيته كفنّان عالميّ، أعيد نشر مقابلة أجريتها معه في العام 2008 (نشرت في صحيفة الأخبار يوم الاثنين 7 تموز 2008 العدد 569) تحدّث في خلالها عن الطفولة والمراحل الأولى للموهبة والسفر والإبداع ثمّ العودة إلى النبطية ليحبس نفسه في «عنق زجاجة» على حدّ وصفه…
علي بدر الدين «ديك» الخطاطين
كامل جابر
قبض على مواهب متعدّدة قبل أن يبلغ العاشرة من العمر. مع إطلالة الشباب راح يبدع بالريشة رسماً وخطّاً وزخرفة، محقّقاً جوائز متعدّدة، ومتنقّلاً بين بلدان مختلفة، هو رياضيّ أيضاً، حقّق مئات الأهداف «الكرويّة»، محتفظاً بلقبه المحبّب الذي لازمه منذ الطفولة: «الديك»
حمّل والد الطفل علي حسن بدر الدين، ابنه المولود في العام 1951 لقب «الديك» منذ كان في الثالثة من عمره «لأنني كنت أنبش الطرق والحقول وأرسم عليها خطوطاً ودوائر وأشكالاً، كنت لا أهدأ كالديك تماماً، ما جعل والدي يطلق عليّ هذا الاسم، وما زلت أعتزّ به لأنّه في محلّه: هو أصلاً من الوالد، ثم كيف يكون الأمر إذا كان الإنسان كالديك؟». «ديك» النبطية لم يحمل الألوان وزخرفتها على جسده ليتباهى بها تبجّحاً، بل حوّلت يداه الألوان إلى أعمال إبداعيّة حصدت الجوائز والتكريم. أتقنَ الخط العربي فانساب بين أصابعه مطوّلات من الآيات القرآنيّة الكريمة وأبيات الشعر والأسماء، توّجها بلوحات وزخرفة في القصور الملكيّة السعوديّة مع الفنان الراحل زعل سلّوم «رفيق العمر الذي علّمني التحكم بالألوان في الرسم وإيقاع الخطوط العربيّة، إذ كان أحد ملوك الخط هو والفنّان الشاعر ياسر بدر الدين. عملت أنا وسلّوم الذي اختطفه المرض وهو في ريعان الشباب في قصر الأمراء والعديد من القصور الملكيّة السعوديّة أكثر من سبع سنوات».
يقرّ بدر الدين بأنّه تتلمذ في الخط أيضاً على يد الشاعر الكبير وحاصد الجوائز، ياسر بدر الدين، وترعرع معه في بيت واحد، بيت السيد صبحي بدر الدين «كان السيد ياسر يمتلك موهبة الخط إلى جانب أريحيّة الشعر، وكان يُعدّ من كبار الخطاطين العرب، وهو الذي أرسلني قبل بلوغي الثامنة عشرة إلى جامعة الخطّ العربيّ في مصر. هناك التحقت بأحد معاهد الخطّ وخضعت لدورات عدّة جعلتني متفوّقاً، وحللتُ في المرتبة الأولى في الخطّ الفارسيّ والخطّ الديوانيّ اللذين نلت عليهما جوائز عديدة». أمّا موهبة الرسم فقد اكتشفها وهو على مقاعد الدراسة الابتدائيّة «وللتمكّن منها، لجأتُ لاحقاً إلى رفيق الطفولة الفنان المبدع زعل سلّوم، فدلّني على أزقّتها وطرقها ومختلف تفاصيلها، ورحنا نحن الثلاثة، نبدع أعمالاً ومعارض مختلفة، بعدما ساهمت البيئة الاجتماعيّة والفنيّة والسياسيّة في مرحلة أواخر الستينيّات ومطلع السبعينيّات، أيّ المرحلة الحزبيّة اليساريّة، في إطلاقنا وإطلاقها، وأهّلتنا لأن نخوض غمار المعارض المحلّية والإقليميّة ثمّ الدوليّة، وكانت مرحلة ذهبيّة لن تتكرّر».
رافقته في رحلته مع الخطّ من النبطية والمعارض المختلفة، إلى بيروت والعديد من المناطق اللبنانيّة إلى… ليبيا، وكان بدر الدين لم يبلغ العشرين من عمره بعد: «نظّم الرحلة إلى ليبيا ياسر بدر الدين، وكان معرضنا في العاصمة طرابلس الغرب. رسمنا هناك العديد من اللوحات كانت أهمّها لوحة «النسر» التي لم تزل نسخها تعرض حتى اليوم في العديد من الإدارات الرسميّة والمباني الحكوميّة هناك، وتلقّيت عليها التكريم المناسب». وفي العام ذاته شارك بدر الدين في معرض فنّي في الولايات المتّحدة الأميركيّة وحصد الجائزة الثالثة.
تحوّل إبداع بدر الدين مع زملائه في الخارج إلى عمل وظيفيّ جعل المراجع الرسميّة في السعوديّة مثلاً تقيم مكتباً خاصّاً لهم، مع جهاز إداريّ. لكنّ الحنين الدائم إلى النبطية جعل الرفاق في فرقة تامّة، إذ تفرّغ ياسر للشعر، وهو يعيش اليوم في كندا، وانصرف زعل سلّوم نحو الرسم قبل أن يداهمه المرض ويفتك به في أواسط التسعينيّات (1996)، أما «الديك» فقد لزم النبطية ولزمته: «أحياناً أشعر بأنّي كمن حبس نفسه في عنق قنّينة، صرت أخطّ الحرف لأعيش يومي، وخصوصاً بعدما طوقتنا حالة سياسية وحزبيّة جعلتنا نشعر بالانزواء، وصار أيّ فنّان يسمو أو يخبو بحسب الجهة السياسيّة التي ينتمي إليها أو تكون هي راضية عنه؛ هذه المرحلة لم نعشها أيام الحركة الوطنيّة، كانت مرحلتها هي الذهبيّة في حياتنا، ولقينا الدعم بعيداً عن انتماءاتنا السياسيّة، كنا نتلّقى الاهتمام والرعاية فقط لأنّنا فنّانون، من أين نأتي مرّة ثانية بمثل فريحة الحاج علي وحبيب صادق اللذين شرّعا صدريهما لكلّ فنّان وموهوب؟».
الذي برز فيه منذ كان في العشرينات من عمره تأثُّر «الديك» بالقضيّة الفلسطينيّة، وعاش معاناة أبناء الجنوب، فجسّد ذلك في لوحاته، واختصر في لوحة «الصرخة» مأساة الجنوبيّ. رسم الطبيعة والوجوه المختلفة، وركّز على جذوع الشجر، وخصوصاً الزيتون، وها هو يعود اليوم إلى المعارض «الزيتية»، فقد باشر منذ نحو سنتين العمل على نحو خمسين لوحة. تمويل المعرض «من إمام مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق، وسوف يتضمّن، إلى اللوحات، أعمالاً في الخطّ العربيّ، وخصوصاً الخطّين الفارسيّ والديوانيّ». بيد أنّ المعرض المقرّر لا ينفي امتلاك «الديك» بعض لوحاته القديمة، وهي جزء من آلاف زيتيّة ومائيّة توّزعت في العالم العربيّ. وعنده لوحة لأبويه فوق لحديهما، ويتمنّى أن يسعفه الوقت، ليجسّد مرحلة المعاناة والمرض التي عاشها الفنّان زعل سلّوم في أواخر عمره «فلهذا الفنان دين كبير في رقبتي».
أبدع علي «الديك» في أعمال عاشوراء، ونفّذ من وحيها لوحة من «البويا»، من 60 متراً وارتفاع عشرة أمتار «أتممتها خلال يومين فقط، ورسمتها بالمكنسة». أمّا اللافتات التي ترفع في عاشوراء من الآيات الكريمة وأبيات الشعر للراحل الشيخ عبد الحسين صادق، الجدّ، فإنّ أروعها وأشهرها هي تلك التي نفّذتها أنامل «الديك»، لتبرز إبداعات من الخطوط المنسابة بإتقان، جعلت الشعر والأقوال في حال انسجام وتلازم بين المعنى والشكل.
وإلى هواية الصيد التي يراها رياضته «الوحيدة»، وتلازمه منذ الصبا، لا تنسى ملاعب النبطية والجنوب وبعض الدول العربيّة والأفريقيّة «الأهداف» الكرويّة التي حقّقها علي الديك، بعدما كان النجم الكرويّ، الذي ساهم في تأسيس النادي الأهليّ في النبطية. أمّا الكرة، فقد نمت بين أقدامه، وهو فتى دون السابعة، ساهم صغر سنه في إتقانها وأهّلته للعب باستمرار في خطّ الهجوم. ثمّ تسببت أربعة كسور أصيب بها في يده اليسرى أثناء المباراة، في اعتزاله الكرة وهو في الخامسة والعشرين؛ إنّما لم يمنع ذلك حنينه المستمرّ إلى الملاعب.
…ولا يزال مستمراً فيه إلى اليوم، أما السيجارة فهي الرفيقة الأكثر قرباً إلى شفتي بدر الدين وروحه «يمكن من ساعة اللي خلقت وأنا بدخّن» يقول؛ أمّا هذا التلازم فيعود إلى أنّ «السيد» لا يعرف الراحة أبداً «وحياتي كلّها شغل بشغل، لا وقت للراحة عندي، وخير صديق كانت السيجارة. أنا بيتي عمّرته بيدي، من القاعدة إلى الجدران والسقف، ولأنّني أنا من شيّده لم أكمله حتّى اليوم، بعد عشرين عاماً، منذ وضعت الأساس الأول. لكنّ مجمل اهتماماتي للخطّ».
تزوّج علي الديك من هدى صباح العام 1973، وأنجبا أربعة أولاد هم: فيرا وعباس وفضل ومنى؛ وتؤكّد زوجته أن اهتمامه انصبّ على أعماله الفنّيّة والخطوط أكثر مما أعطى للعائلة؛ و«كان بإمكان الديك أن يكون من أصحاب الرساميل، لكنّ النبطية فتنته إلى حدّ تخلّيه عن مواقع عالية في الدول العربيّة ليعود ويحبس نفسه في دائرة مدينته، غير آبه بالشهرة والعالميّة وبتحقيق الكثير من الطموحات التي كانت تراوده، وأنا أقول له دائماً: من الحب ما قتل، والنبطية أسرت الديك وحبسته في أدنى من قنينة».
مهنة منافسة الكومبيوتر
يعرض بدر الدين مشكلات مهنته كخطّاط، بعدما دخل الكومبيوتر إلى سوق التنافس «حرمنا ما نسبته 90 بالمئة من الإنتاج، برغم أنّ تنفيذ الكومبيوتر يبدو كأنّه جمال مصطنع يفتقد إلى الحيويّة وجماليّة الخطّ العربيّ». يتابع فخوراً بعمله: «بمجمل الأحوال، فإنّ الشطارة والامتحان للخطّاط تبرزان بـ«الغزّار»، أيّ بالحبر الصينيّ على الورق. لقد برز العديد من الخطّاطين في النبطية، لكنّ معظمهم لم يصل إلى الاحتراف». ويذكر يوم وقف ياسر بدر الدين في إحدى قاعات المجلس النيابي أمام كبير خطّاطي العرب وخبير الخطوط العربيّة «البابا» بعدما كان أعدّ كتاباً أنتجه خلال أربع سنوات من الخطّ الفارسي، وعندما رآه البابا قال له: «إنّه القمّة في الخطّ؛ فما كان من ياسر إلاّ أن مزّق أوراقه قائلاً للبابا: عندي القدرة على أن آتي بأفضل من ذلك؛ فردّ البابا: إنّك لست طبيعيّاً إذاً».
تحيّة
مرّت أعوام يا صديقي الفنّان علي بدر الدين (08/04/1951- 30/04/2020)، يا ديكنا الصيّاح كلّ صباح، توقظنا برفق من ركود انشغالاتنا في مختلف الهموم، لكي نلتفّ حول سيرتك، التي ما فتئت كالنّبع، كالنّهر، تتدفّق حكايات وخطوطاً ولوحات، وذكريات.
مرّت أعوام يا صديقي، من غير أن نصدّق أنّك في سفر طويل، وأنّك تركت لنا الجدران والمساحات البيضاء لكي نخطّ عليها، بدورنا، حكاياتنا نحن، أحلامنا المتعثّرة، وخطوطنا المتداخلة.. بيد أنها ساقتنا بما نختمره من حبّ وشوق، إلى إرثك الملّون كالأحلام، المزخرف كالأيقونات، هنا وهناك، إلى سحرك المتجلّي في أعمالك ولوحاتك، وفي صومعتك، تلك الأرض التي أنبتت أجمل الفنون، وإلى سيرتك، وهي سيرة لا تنقطع، ولن تنقطع.
يا صديقي أتممنا قسطاً ضئيلاً ممّا لك عندنا وفينا، فأقمنا مع ثلة من المحبين والأصدقاء معرض لوحاتك وجدارياتك، في المكان الذي أحببت دائماً، في قاعة النادي الحسينيّ، وصدرت مجموعة من بطاقات للوحات من أعمالك الخالدة، لكنّ مسيرة تكريمك لم تنتهِ بعد. وعلى الرغم من معوّقات الوباء والتردّي الاقتصاديّ الاجتماعيّ سنواصل رسالة عهدناها على أنفسنا، في كتاب يحمل ما تبقّى من أعمالك، وتكريس بيتك المحترف.
ابقَ حولنا يا صديقي لكي تبقى عيوننا عاشقة للحياة، تماماً مثل عشقها لمرورك اللطيف في تزيين حياتنا..
الصورة في الاعلى : علي بدر الدين في محترفه في النبطية سنة 2008، تصوير كامل جابر
هنا النبطية – كامل جابر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى